الخميس، 5 يوليو 2018


تميم بن مرّ جدّ قبيلة بني تميم

بسم الله الرحمن الرحيم
لا يخفى على القارئ ندرة المعلومات عن تميم بن مرّ، جد قبيلة تميم المضريّة العدنانية التي حملت اسمه إلى اليوم، وذلك بسبب قلّة المصادر التي تكلمت عنه من جهة، وبعد العصر الذي عاش فيه من جهة أخرى. وعلى الرغم من كثرة الكتب والمصادر التي ألفت عن قبيلة تميم، فإنك تعجب أنه لا يوجد فيها أي ترجمة لجدها تميم بن مُرّ، فلذلك أحببت أن أضع هذه النبذة.
نسب تميم:
هو تميم بن مُرّ بن أُدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، ومن عدنان يصل النسب إلى نبي الله إسماعيل ابن نبي الله إبراهيم الخليل عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، ويلتقي تميم بالنسب مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في إلياس بن مضر، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: (ما زلت أحب بني تميم منذ ثلاث سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم)، وذكر: (وجاءت صدقاتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هذه صدقات قومنا”)، أخرجه البخاري، ومسلم. وعلق الحافظ ابن حجر (ت 852هـ) بقوله: (إنما نسبهم إليه لاجتماع نسبهم بنسبه صلى الله عليه وسلم في إلياس بن مضر). جدير بالذكر أنّ أمّ النضر بن كنانة – الذي تنسب إليه قريش – هي بَرَّة بنت مرّ أخت تميم.
معنى تميم اللغوي:
يدور معنى تميم اللغوي حول الصَّلابة والشِّدَّة، قال ابن منظور (ت 711هـ)، في (لسان العرب): (التّميم: الطويل، … والتّميم: التام الخلق، والتّميم: الشاد الشديد، والتّميم: الصَّلْب، … وقيل التّميم: التام الخلق الشديدة من الناس والخيل، … وتميم: قبيلة، وهو تميم بن مُرّ بن أُدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر).
زمن تميم:
من المرجح أن فترة وجوده قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بستمائة سنة تقريباً، وبعثته صلى الله عليه وسلم كانت قبل الهجرة بثلاثة عشرة سنة الموافق لعام 610م، فتميم إذاً جدّ جاهلي. قال في (شرح ذات الفروع في نسب بني إسماعيل): (كان تميم في الفترة ما بين سليمان وعيسى عليهما السلام، وقد ذكر أنه كان في زمن الإسكندر وأنه يلي شرطته، وكان يطلب الحنيفية وينكر عبادة الأصنام، وكان في زمن عمرو بن لحيّ، وذكر أنه أدرك عيسى عليه السلام، بعد أن مضى من عمره دهراً طويلاً، وأن عيسى عليه السلام سأله عن نفسه ودينه فأخبره، فقال هل تستطيع أن تصحبني؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: أنت وزيري وأخي، ومضيا معاً فلم يزل معه حتى رفع. ثم مضى إلى اليمن يسيح ومعه ابن أخيه المعافر بن يعفر بن مّر، فلم يزل بها حتى مات وكان عمره ستمائة سنة. وهو وكعب بن لؤي في زمن واحد، ومات في بلد يقال لها رَيْمَان من أرض اليمن).
وولادة نبي الله سليمان عليه السلام كانت سنة 1000 قبل الميلاد على وجه التقريب، وميلاد عيسى عليه السلام هو بداية التاريخ الميلادي، ورفعه سنة 40م تقريباً، أما ولادة الإسكندر الأكبر فكانت سنة 356 قبل الميلاد ووفاته سنة 323 قبل الميلاد، فإن صحت هذه الرواية، يكون تميم عاش أكثر من 400 سنة، منذ قبل زمن الإسكندر حتى بعد رفع عيسى عليه السلام. قال الفرزدق (ت 110هـ) الشاعر التميمي الشهير:
على عهد ابن مريم كان قوميهــم الـفـرع المـقـدَّمَ والسّنـامـا
ومما قد يؤيد ما جاء في الرواية السابقة من أن تميم كان على الإسلام وربما كان من حواريي عيسى عليه السلام ما ورد في الآثار التي منها ما أخرج العقيلي (ت 322هـ)، في الضعفاء بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا تميماً وضبة فإنهما كانا مسلمين).
وروى الحاكم (ت 405هـ) في (تاريخه)، بسنده إلى جابر رضي الله عنه رفعه: (لا تسبوا ربيعة ومضر، فإنهما كانا مسلمين، ولا تسبوا ضبة بن أدّ، ولا تميم بن مرّة، ولا أسد بن خزيمة، فإنهم كانوا على دين إسماعيل).
وذكر الزمخشري (ت 528هـ) في تفسيره (الكشاف)، عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا مضر ولا ربيعة، فإنهما كانا مسلمين، ولا تسبوا قساً فإنه كان مسلماً، ولا تسبوا الحارث بن كعب، ولا أسد بن خزيمة، ولا تميم بن مرّ، فإنهم كانوا على الإسلام).
ومما جاء في وصية الحارث بن كعب المذحجي لأبنائه قوله: (ولا بقي على دين عيسى بن مريم أحد من العرب غيري، وغير تميم بن مرّ، وأسد بن خزيمة، فموتوا على شريعتي، واحفظوا وصيّتي).
مكان قبر تميم:
قبر تميم موجود في بلدة مرّان من أرض نجد المتاخمة للحجاز، وهي منهل قديم مشهور كثير الماء، كان على طريق الحاج، وموقعه في حرّة جبل كشب، في جنوبها الغربي، في عالية نجد، شمال مدينة المويه حالياً، والأرض المحيطة به سبخة، وكان به أصول نخل ودوم، وآثار عمران قديم، قام على أطلاله بلدة لا زالت عامرة، وهي بقرب خط الطول 50: 45، وخط العرض 50: 20.
قال جرير (ت 114هـ) الشاعر التميمي ذائع الصيت:
قال الشارح محمد بن حبيب (ت 245هـ): (أراد قبر تميم بن مرّ بمرّان، على أربع مراحل من مكة إلى البصرة، يفخر به على عمر بن لجأ، يقول: فمن فعل ذلك بي يصير جاراً لتميم بن مرّ، أي يموت فيصير له جاراً. وحرّبني: أغضبني، … يقول: تميم بن مرّ جاري الذي أفخر به وأعز، فتميم كلها تحميني وتنصرني).
وقال أحمد بن يحيى البلاذري (ت 279هـ): (مات تميم فدفن بمرّان)، وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي (ت 285هـ): (أخبرني ابن أبي سعيد عن النوفلي عن أبيه قال: قبر تميم بن مرّ بمرّان)، وقال عبدالله البكري (ت 487هـ): (زعموا أن قبر تميم بن مرّ بمرّان، ولذلك قال جرير: تعدوا بنا الخيل طُمُوح العِقبانْ // نحمي ذمار جدف بمرّانْ)، وقال ابن سعيد الأندلسي (ت 685هـ): (قبر تميم بمرّان من نجد مما يلي طريق مكة من العراق).
وسبق النقل عن (شرح ذات الفروع)، أن تميماً مات في بلد يقال لها رَيْمَان من أرض اليمن، وقد انفرد الشارح بذلك مخالفا لأشعار التّميميّين المتقدمين كجرير، ومخالفا كذلك لجميع كتب المعاجم القديمة، وقصيدة (ذات الفروع)، التي عليها هذا الشرح، توفي ناظمها محمد بن حمزة سنة 656هـ، وشارحها متأخر، فيظهر أن ما في (شرح ذات الفروع)، وَهْمٌ، وأن الذي توفي في أرض اليمن هو ابن أخي تميم المعافر بن يعفر، الذي لا تزال ذريّته هناك، فالأرجح أن تميماً مات في عالية نجد، بدليل وجود قبره في مرّان.
أسرة تميم:
1- والد تميم: هو مرّ بن أد، يذكر اسمه في بعض المراجع (مرّة)، فيقولون عن ولده تميم بن مرّة، وقد علق الحافظ محمد ابن أبي بكر الأصبهاني (ت 581هـ)، بقوله: (وَهِم الأصبهانيون في نسبته في مرّة بالتاء، وإنما هو ابن مرّ). وهذا الوهم يوجد عند المؤلفين المتقدمين بسبب الخلط في كتابة تميم بن مرّ، وتيم بن مرّة القرشي، فأضافوا حرف التاء لاسم مرّ.
2- أمّ تميم: هي الحوأب بنت كلب بن وبرة القضاعية.
3- إخوة تميم: هم بكر، والغوث، وثعلبة، ومحارب، وعامر، وكامل، ومازن، وسلمة، ويعفر، وشبك، وإراش.
4- أخوات تميم: هن بَرَّة، وهند، وتكمة، وجديلة، وعاتكة.
5- أولاد تميم: هم زيدمناة، وعمرو، والحارث، ويربوع.
6- زوجات تميم: صفية بنت القين بن جسر، وسلمى بنت كعب بن عمرو، والذوفاء بنت ضبّة بن أدّ.

الأحد، 21 يناير 2018

Public-Private Partnerships


What are 'Public-Private Partnerships '
Public-private partnerships between a government agency and private-sector company can be used to finance, build and operate projects, such as public transportation networks, parks, and convention centers. Financing a project through a public-private partnership can allow a project to be completed sooner or make it a possibility in the first place.

BREAKING DOWN 'Public-Private Partnerships '
For example, a city government might be heavily indebted, but a private enterprise might be interested in funding the project's construction in exchange for receiving the operating profits once the project is complete.

Public-private partnerships have contract periods of 25 to 30 years or longer. Financing comes partly from the private sector but requires payments from the public sector and/or users over the project's lifetime. The private partner participates in designing, completing, implementing and funding the project, while the public partner focuses on defining and monitoring compliance with the objectives. Risks are distributed among the public and private partners according to the ability of each to assess, control and cope with them.

Payment for Public-Private Partnerships
Although public works and services may be paid for through a fee from the public authority's revenue budget, such as with hospital projects, concessions may involve the right to direct users' payments, as with toll highways. In cases such as shadow tolls for highways, payments are based on actual usage of the service. In cases involving wastewater treatment, payment is made with fees collected from users.

Benefits of Public-Private Partnerships
Private-sector technology and innovation help provide better public services through improved operational efficiency. The public sector provides incentives for the private sector to deliver projects on time and within budget. In addition, creating economic diversification makes the country more competitive in facilitating its infrastructure base and boosting associated construction, equipment, support services and other businesses.

Risks of Public-Private Partnerships
Physical infrastructure such as roads or railways involves construction risks. If the product is not delivered on time, exceeds cost estimates or has technical defects, the private partner typically bears the burden.

The private partner faces availability risk if it cannot provide the service promised. For example, the company may not meet safety or other relevant quality standards when running a prison, hospital or school.

Demand risk occurs when there are fewer users than expected for the service or infrastructure, such as toll roads, bridges or tunnels. If the public partner agreed to pay a minimum fee no matter the demand, that partner bears the risk.

Examples of Public-Private Partnerships
Public-private partnerships are typically found in transport infrastructures such as highways, airports, railroads, bridges, and tunnels. Municipal and environmental infrastructure includes water and wastewater facilities. Public service accommodations include school buildings, prisons, student dormitories and entertainment or sports facilities.




السبت، 28 يناير 2017

SAUDI ARABIA’S FINANCIAL STRENGTH




The Kingdom of Saudi Arabia is a key subject when considering the state of the world’s economy. It is the world’s largest petroleum exporter and the heart of the Islamic nations. Multiple political structures and international relations emerge from its blatant economic, geographic, as well as religious status. This has resulted in the Kingdom becoming a bridge between the Islamic nations and the western civilization. Given its strategic position in the OPEC, it dictates to some extent major trends in the world’s economy by having a strong influence over oil prices, its production capacity and its political agreements. For many decades, oil production was the kingdom’s main economic pillar with a selling price of approximately $85 a barrel and a cost of production below $2. Even such a lucrative industry would hardly support a country indefinitely, considering their finite amount of resources. Today, Saudi Arabia is aware of such a mild threat and is now assessing its options in embracing new visions of growth that do not rely exclusively on oil. First, the government applies the legal code of Islam in its banking system, and second, opens its stock market to foreign countries to optimize its financial puissance.
Many factors contribute to the rapid economic expansion of Saudi Arabia. On one end of the spectrum, having 18% of the world’s proven oil reserves puts Saudi Arabia directly on a pedestal. 50% of the Saudi’s Gross Domestic Profit comes from the oil and gas sector, which represent 85% of export earnings. By world standards, the kingdom is intensely influential. According to the Organization of the Petroleum Exporting Countries’ 2013 report, Saudi Arabia would be in possession of approximately 266 Billion Barrels and an extra 2.5 Billion shared in the Saudi-Kuwaiti Zone. The continuous growing demand for oil products and oil-based machinery in the United States and other major oil consumers fosters the already-established strength of being a major player in the OPEC.
On the other end, the Islamic influence has greatly impacted financial structures by prohibiting usurious practices. In the Islamic laws, money is perceived as a mere measure of value and is not considered an asset itself. Therefore, any earnings based on the “value” of money would not be in accordance with the rules of Shariah (Islamic laws). Financial engineering came up with what is now more commonly known as “Islamic Banking”; A form of finance that involves both lender and borrower in a profit-loss-sharing system aiming at suppressing the favoritism towards the lender. Islamic Banking in Saudi Arabia is a $217 Billion industry worth of assets, the world’s largest Islamic finance concentration.
In 2007, when subprime mortgages started to heavily default showing the weak spot of interest based practices such as teaser rates or predatory lending, Islamic banking on the other hand presented aggressive growth. “ Islamic banks, on average, showed stronger resilience during the global financial crisis.” IMF. It is heavily argued that Islamic banking might be the solution to prevent future credit crises. Today, most of the largest multinational-consultancy firms such as Deloitte and Ernst & Young are welcoming Islamic Finance with open arms as it appeals to a growing group of international investors. Financial assets in Islamic banks have grown at a 17.6% rate annually (on average) since 2009 and are expected to attain 19.7% before 2018.
Though Saudi Arabia has long been relying on its natural resources to affirm its economic presence amongst the wealthiest nations, it is now embracing a new vision of growth by opening its doors to foreign investors. The policies regarding investments in Saudi’s stocks have long been restricted to domestic investors. As the practicality of globalization spreads exponentially, the kingdom is now considering alternative ways for expanding its market. Recently it has been discussed that foreign firms would have access to a $580 Billion investment capacity in the first half of 2015. QFFIs (Qualified Foreign Financial Institutions) will have the opportunity to enter one the world’s most restricted exchanges. Tadawul Exchange (Saudi stock market) stresses the importance of keeping the market safe and protecting itself from being exposed to risky investors. Therefore, only QFIs with a minimum of $5 billion worth of assets under management and a minimum of 5-year experience in the investment field would be eligible to participate in the market offering. In addition, multiple market caps have been put in place to lessen the risk of monopoly of stock ownership. Despite the challenges facing the marketability of its stock market due to the recent plummeting of oil prices, Tadawul Exchange is still a robust market that offers a considerable diversification to QFFIs. Amid several propitious economic impacts, it will ultimately boost the credibility of the Middle-Eastern region for both oil and non-oil based industries.
It is not a secret; Saudi Arabia owes its fortune mainly to its oil industry. For many decades, its growth has been sustainable and steady. However, Saudi Arabia’s future is less certain. Today, in other countries, billions of dollars are being spent in Research & Development to explore alternative forms of energy less harmful to the environment. To what extent does alternative energy represent a threat to the Kingdom’s current strategic position as the world’s top oil exporter? How can Islamic banking contribute to the world’s financial stability? These are some questions that need further considerations.
Work Citation
  • Sarmad Khan, Nikolaj Gammelto, and Arif Sahrif. “Saudi Arabia Drafts Foreign Limits for $580 Billion Bourse.”Bloomberg.com. Bloomberg, 21 Aug. 2014. Web. 08 Feb. 2015.
  • IMF Team. “IMF Survey: Islamic Banks: More Resilient to Crisis?” IMF Survey: Islamic Banks: More Resilient to Crisis? 4 Oct. 2010. Web. 08 Feb. 2015.
  • Heritage.org “Saudi Arabia.” Economy: Population, GDP, Inflation, Business, Trade, FDI, Corruption. Web. 08 Feb. 2015.
  • “Big Interest, No Interest.” The Economist. The Economist Newspaper, 13 Sept. 2014. Web. 08 Feb. 2015.
Islamic banking performance benchmarked against conventional banking



MM

الخميس، 26 يناير 2017

مستقبل أحفادنا الاقتصادي

الاقتصادي الإنجليزي الشهير جون مينارد كنيز (J.M. keynes)، والذي لا يتردد كثيرون في اعتباره أعظم اقتصاديي القرن العشرين، له مقال شهير كتبه سنة 1930 بعنوان (مستقبل أحفادنا الاقتصادي)، العنوان شيق، والمحتوي شيق أيضاً، سواء قرأناه وقت ظهوره، أو قرأناه الآن، وفيه من التأمل الفلسفي أكثر مما فيه من الاقتصاد.
المقال لا يتكلم عن الحالة الاقتصادية التي سيكون عليها أحفادنا إلا من حيث حلول الوفرة محل الندرة، أي حلول عصر يكون من الممكن فيه إشباع الحاجات الإنسانية دون جهد أو دون جهد كبير، وإنما يركز «كنيز» كلامه في هذا المقال على الأثر النفسي والفكري الذي سيترتب على النجاح في حل المشكلة الاقتصادية، واتجاه اهتمامات الناس إلى مشكلات أكثر نبلا وأقل أنانية.
عندما نقرأ مقال كنيز الآن، قد يدهشنا تفاؤله بإمكانية انتهاء مشكلة الندرة الاقتصادية انتهاء تاما، بانقضاء مائة عام على وقت كتابته للمقال، وكذلك تفاؤله بأثر ذلك في نوع تفكير الناس ونظرتهم للحياة. فها نحن بعد مرور ما يقرب من تسعين عاما على ظهور المقال لا نجد أي علامة مهمة على هذا أو ذاك.
الناس مازالوا يشكون من مختلف مظاهر الندرة الاقتصادية، ليس فقط في البلاد الفقيرة، بل وفي الغنية أيضا، ومازالت نظرتهم للحياة تحكمها إلى حد كبير (بل وقد يحكمها في الأساس) المشكلة الاقتصادية أكثر من أي مشكلة أخرى. كتب كنيز هذا المقال خلال السنوات الأولى لأزمة الثلاثينيات العالمية الشهيرة.
ولكنه لم يتوقع (بعكس غيره) أن تستمر الأزمة طويلا، أو أن تكون هي نهاية النظام الرأسمالي (بعكس ما توقع البعض أيضا)، بل توقع (وكان محقا) أن يستمر بعدها التطور التكنولوجي الذي عرفه الناس قبلها.
ولكنه توقع أنه بعد نحو مائة عام (وهنا كان بعيدا عن الحقيقة) ستكون مشكلة الندرة (أي قلة الموارد الاقتصادية بالمقارنة بالحاجات الإنسانية) قد توارت إلى حد بعيد (ما لم تحدث زيادة كبيرة في السكان أو تنشب حروب خطيرة تبدد فيها الموارد)، ومن ثم توقع أن يتجه الإنسان إلى اهتمامات أخرى.
يقول كنيز إن مشكلة الندرة ظلت هي التي تحتل مكان الصدارة في اهتمامات الإنسان منذ بدء الخليقة، إذ لم يخترع الإنسان وسائل جديدة لزيادة إنتاجيته في الزراعة والصناعة زيادة ملموسة إلا منذ نهاية القرن السادس عشر، فاستمرت وسائل الإنتاج الأساسية تقريبا كما هي طوال تلك القرون السابقة على ذلك القرن (اللغة، النار، الحيوانات المستأنسة، المحراث، العجلة، المجداف، الشراع، الطوب..الخ).
واستمر الإنسان بالتالي، حتى في الدول التي تعتبر الآن متقدمة، أسير إمكاناته الاقتصادية المحدودة، ومهموما بمشكلة تخفيف أعباء الإنتاج ومحاولة زيادة أوقات الفراغ. ثم تساءل كنيز: ما الذي يمكن أن يحدث للإنسان يا ترى بعد مائة عام، عندما تطول أوقات الفراغ، ويصبح بإمكانه التفكير والاهتمام بمشاكل أخرى غير المشكلة الاقتصادية؟
لم يتوقف كنيز طويلا ليحاول الإجابة على السؤال عما يمكن أن يفعله الإنسان لملء أوقات فراغه، بل ذهب فورا إلى التساؤل عما يمكن أن يحدث من تغيير في أخلاقه ونظرته للحياة، فإذا به يعبر عن تفاؤل لا نجد له مثيلا في أيامنا هذه، النقود سوف تفقد سحرها، وتحقيق المزيد منها بزيادة الأرباح وادخارها لن يصبح هو الشاغل الأعظم للناس.
زيادة الثروة في المستقبل لن تصبح هدف أحد إلا من هم أشبه بالمرضى أو الذين يعانون من خلل عقلي، وسيركز الناس اهتمامهم على التمتع بالحاضر وما يقدمه من متع. ستزداد أهمية الدين، وستتحسن أخلاق الناس كلما قل اهتمامهم بتحصيل الثروة.
لماذا لم يتحقق تفاؤل كنيز في كلا الأمرين؟ لماذا استمر شعور الناس بالمشكلة الاقتصادية ولم تنقص سيطرتها على تفكير الناس؟ ولماذا استمرت نظرة معظم الناس إلى الحياة وإلى العلاقات الاجتماعية محكومة أساسا بالاعتبارات الاقتصادية؟ إن التقدم التكنولوجي لم يتوقف قط خلال هذه التسعين عاما، وزادت الموارد والقدرة الإنتاجية أضعافا مضاعفة منذ كتابة مقال كنيز.
فلماذا لم يسفر هذا عن انحسار أهمية المشكلة الاقتصادية وسيطرتها على تفكير الناس؟ لقد توقع كنيز أن يؤدي انحسار مشكلة الندرة إلى أن تنخفض ساعات العمل إلى ثلاث ساعات يوميا، كي يوزع العمل الذي مازال ضروريا على شخصين أو ثلاثة بدلا من أن يقوم به شخص واحد، فإذا بالذي حدث هو أن انحسار مشكلة الندرة صاحبته زيادة ساعات العمل بدلاً من تخفيضها.

عناصر النشاط الاقتصادي في الاقتصاد الإسلامي ( 3 ) الإنفاق

لأن الاقتصاد الإسلامي ينفرد ويتمايز بنظرة اقتصادية عقـائديـة للمال؛ إذ المالك الحقيقي للمال هو الله عز وجل، قال تعالى: " لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " المائدة 120؛ فالملكية في الاقتصاد الإسلامي لا تثبت إلا بإباحة الشارع لها، وتقريره لأسبابها، وهي ملكية انتفاع وليست ملكية رقبة، وهي ناشئة عن استخلاف الله للإنسان في الأرض، قال تعالى: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً " البقرة 30؛ والبشر المستخلفون من الله في الأرض مأمورون بالإيمان بالله وبرسوله على الوجه الأكمل، والإنفاق في سبيله، قال تعالى: " آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ " الحديد 7.
لذا فإن مصطلح الإنفاق الوارد في القرآن الكريم والسنة النبوية هو المصطلح الصحيح والدقيق للتعبير عن العنصر الثالث من عناصر النشاط الاقتصادي في الاقتصاد الإسلامي بعد الإنتاج والتوزيع، وليس مصطلح الاستهلاك المستخدم في الاقتصادات التقليدية.

مفهوم الاستهلاك في الاقتصاد التقليدي

يمكن الوقوف على مفهوم الاستهلاك في الاقتصاد التقليدي من خلال عرض بعض تعريفات القواميس والاقتصاديين للاستهلاك.
-يعرف قاموس ويبستر العالمي الاستهلاك بأنه: " عمل يهدف إلى استعمال الشئ استعمالاً كاملاً، مثل الأكل والوقت وغير ذلك "، والاستعمال الكامل يعني إفناء السلع الاقتصادية المُنتَجة أو اندثار منفعتها، وبهذا المعنى يكون الاستهلاك عكس الإنتاج الذي يهتم بإيجاد القيمة.
-ويعرف قاموس الاقتصاد الحديث الاستهلاك بأنه: " الاستعمال الأخير للسلع والخدمات في إشباع الحاجات والرغبات الإنسانية ".
-وتعرف وزارة التجارة الأمريكية الاستهلاك بأنه: " القيمة السوقية لمشتريات السلع والخدمات من الأفراد والهيئات بغير غرض الربح، وقيمة الأكل والملابس والإسكان وغير ذلك "، وهو تعريف إحصائي.
-يقول الاقتصادي الأمريكي جاردتر آكلي أن الاستهلاك هو: " الحصول على إشباع مادي أو نفسي من استخدام أو ملكية السلع والخدمات الاستهلاكية وليس مجرد شرائها فقط "، ويشير التعريف إلى أن تحقيق الإشباع يتطلب امتلاك قدرة مالية لشراء السلع والخدمات.
-أما الاقتصادي الألماني شترا يزلر فيقول بأن الاستهلاك هو: " المنفعة المتحققة عن الجهد المبذول من أجل الحصول على السلع الضرورية "، وهذا التعريف قصر المنفعة على السلع الضرورية دون السلع الحاجية والكمالية.
التعريفات السابقة توضح أن الاستهلاك في الاقتصاد التقليدي يعني المرحلة الأخيرة لعمليتي الإنتاج والتوزيع؛ والغاية النهائية لحياة الإنسان، حيث يقوم الإنسان باستعمال السلع والخدمات في إشباع حاجاته من أكل وشرب وملابس وسكن .. وغير ذلك من الحاجات اللازمة لاستمرار حياته بهدف المتعة الدنيوية لا غير.

مفهوم الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي

مصطلح الاستهلاك لم يرد صراحة في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية؛ إلا أنه ورد بمعناه ضمن مصطلح الإنفاق الذي هو أعم وأشمل من الاستهلاك، حيث ينقسم الإنفاق إلى:
- إنفاق فطري للإنسان: كالإنفاق على الأكل والشرب والسكن، ويمكن أن يطلق عليه " الإنفاق الاستهلاكي " للتبسيط، وهو مطابق للاستهلاك في الاقتصاد التقليدي؛ من حيث تحقيق إشباع حاجات البشر، ويختلف ويتمايز عن الاستهلاك من حيث ضوابط الإنفاق والغاية النهائية منه.
-إنفاق صدقي إلزامي: متمثل في الزكاة بمصارفها الثمانية المتنوعة قال تعالى: " إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " التوبة الآية 60.
-إنفاق صدقي طوعي: متمثل في عموم الصدقات على أهل الحاجة والفقر والمسكنة، قال تعالى: " وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ " النحل 71. والمعنى أن الله - عز وجل - جعلكم متفاوتين في الرزق، فرزقكم أفضل مما رزق غيركم، وهم بشر مثلكم وإخوانكم، فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رُزقتموه عليهم، حتى تتساووا في الملبس والمطعم، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ " رواه البخاري ومسلم.
-القرض الحسن: وهو إنفاق مسترد؛ يقول عنه الفخر الرازي في التفسير الكبير: هو من أحسن أنواع الصدقة، وهذا المعنى ليس ببعيد عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: " رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ قَالَ لأنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ وَالْمُسْتَقْرِضُ لا يَسْتَقْرِضُ إِلا مِنْ حَاجَةٍ " صحيح ابن ماجه. والقرض الحسن هو القرض بدون فائدة ابتغاء البركة والمضاعفة من الله؛ وقد شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده ليتقربوا به إليه لما فيه من الرفق بالناس، وتيسير أمورهم، وتفريج كربهم، قال تعالى: " مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " البقرة 245.
-الوقف: وهو إنفاق مخصوص تحبس فيه العين الموقوفة فلا يتصرف فيها، والمنفعة أو الغلة التي تتحقق عنها تصرف لجهات الوقف على مر الأجيال وفقاً لمقتضى شروط الواقفين؛ والوقف يسهم في تحرير رؤوس الأموال العينية والنقدية من سيطرة حب أصحابها الفطري لها، ويجعلهم يدفعون بها للمشاركة في تنمية المجتمع طلباً للنماء والثواب من الله في الآخرة، قال تعالى: " لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ " آل عمران 92. والوقف يحقق التراحم بين أفراد الجيل الواحد، ويحقق التواصل بين جيل الواقفين والأجيال القادمة في منظومة فريدة من الإيثار؛ يصدق فيها قوله تعالى: " وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ " الحشر 10.

خصائص الإنفاق الاستهلاكي في الاقتصاد الإسلامي

رغم أن الاستهلاك في الاقتصاد التقليدي يماثل الإنفاق الاستهلاكي في الاقتصاد الإسلامي في الجانب المتعلق بتحقيق إشباع الحاجات الإنسانية؛ إلا أن الإنفاق الاستهلاكي ينفرد بعدة خصائص فارقة عن الاستهلاك.

1- الإنفاق الاستهلاكي أمر فطري وديني

ينظر الاقتصاد الإسلامي إلى الإنفاق على الأكل والشرب واللبس والسكن على أنه أمر فطري يمارسه كل إنسان بصفة عامة لتستمر حياته على الأرض؛ ولكنه ينظر إلى الإنفاق الاستهلاكي للإنسان المسلم بصفة خاصة على أنه أمر ديني يسبق وينظم الأمر الفطري، لأن المحافظة على استمرار حياة الإنسان الهدف منها قيام الإنسان المستخلف بما كلفه به الله من عمارة الأرض، قال تعالى : " وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا " هود 61؛ وعمارة الأرض الهدف منها إصلاحها لإقامة مجتمع المتقين؛ الذي بوجوده تتحقق الغاية الأسمى من الوجود كله، وهي العبودية لله الواحد قال تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ " الذاريات 56.

2- الإنفاق الاستهلاكي عبادة بضوابط شرعية

حينما يقرن الله - سبحانه وتعالى - بين الأمر بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل، والإنفاق في سبيله مرتين في آية واحدة، كما جاء في قوله تعالى: " آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ " الحديد 7، لهو دليل على أهمية الإنفاق بشقية الاستهلاكي والصدقي بالنسبة للإنتاج بصفة خاصة وللاقتصاد بصفة عامة.
وإذا كان الإنفاق الصدقي الإلزامي والطوعي من العبادات بالضرورة؛ فإن الإنفاق الاستهلاكي إذا قصد به وجة الله - سبحانه وتعالى - والامتثال والطاعة لأوامره من تحري الحلال وأكل الطيبات للتقوي على طاعة الله والعمل الصالح للنفس والمجتمع فإنه يعد من العبادات، يؤكد ذلك كثرة الآيات التي تأمر الرسل والناس أجمعين بالإنفاق على الأكل والشرب واللبس وفق ضوابط شرعية محددة، قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ " المؤمنون 51؛ وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا " البقرة 168؛ وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ " البقرة 172؛ وقال تعالى: " يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ " الأعراف 31، والآية تأمر بأخذ الزينة من الكساء واللباس والأكل والشرب بشرط عدم الإسراف.
وإذا كان الاقتصاد الإسلامي ينهى الناس عن الإسراف في الإنفاق الإستهلاكي لما فيه من إضرار بحق الغير من نفس الجيل في الاستفادة من هذه الموارد، ولما فيه من إهدار لحقوق الأجيال القادمة في هذه الموارد اللازمة لاستمرار الحياة على الأرض؛ فإن الاقتصاد الإسلامي بالمقابل ينهى عن البخل مع القدرة على الإنفاق ، لما في ذلك من بالغ الضرر على الفرد وعلى المجتمع، يقول ابن القيم الجوزية - رحمه الله - في شأن الإنفاق الاستهلاكي أنه: " وسيلة إلى قيام الشخص بما وكل إليه من أعمال؛ لأن المطاعم والمشارب والملابس والمناكح داخلة فيما يقيم الأبدان ويحفظها من الفساد والهلاك؛ وفيما يعود ببقاء النوع الإنساني ليتم بذلك قوام الأجساد وحفظ النوع فيتحمل الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض ويقوى على حملها وأدائها، ويتمكن من شكر مولي النعمة ومسديها "، قال تعالى: " وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا " الإسراء 29؛ وقال تعالى: " وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا " الفرقان 67.
كما أن الاقتصاد الإسلامي يحرم الاكتناز وهو عدم الإنفاق الصدقي، قال تعالى: " وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ " التوبة 34، وفي التفسير أيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه. أما الاكتناز بالمعنى الاقتصادي فيقصد به تخلف أحد عناصر الموارد عن المساهمة في الاقتصاد وبقاؤه في صورة عاطلة، مما يؤدي إلى حدوث اختناقات في حركة عوامل الإنتاج، يترتب عليها توقف أو تباطؤ النشاط الاقتصادي، وهو ما يمثل إعاقة لهدف عمارة الأرض أو التنمية الاقتصادية للمجتمع بالمفهوم الحديث.

3- الإنفاق الاستهلاكي وسيلة وليس غاية

وإن كان الإنفاق الاستهلاكي في الاقتصاد الإسلامي يحقق للإنسان المسلم المتعة واللذة الدنيوية من الناحية الفطرية؛ إلا أنه يظل وسيلة للحصول على الثواب في الآخرة من الناحية الدينية، قال تعالى: " فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " البقرة 200، 201. فالإنسان المسلم يأكل ويشرب ويلبس ويسكن لتستمر حياته ليقوم بواجبه في عمارة الأرض وعبادة الله ليدخل الجنة في الآخرة.
وهكذا يتضح أن الاستهلاك في الاقتصاد التقليدي جزء من الإنفاق في الاقتصاد الإسلامي؛ وأن الإنفاق الفطري للإنسان " الإنفاق الاستهلاكي " في الاقتصاد الإسلامي يعد نوعاً من أنواع العبادات حينما يقصد به وجه الله سبحانه وتعالى، وتراعى فيه الضوابط الشرعية المقررة له، والإنفاق في الاقتصاد الإسلامي وسيلة لتحقيق المنفعة في الدنيا والثواب في الآخرة، وليس غاية نهائية كما في الاقتصاد التقليدي.

عناصر النشاط الاقتصادي في الاقتصاد الإسلامي ( 2 ) التوزيع

التوزيع هو العنصر الثاني من عناصر النشاط الاقتصادي بعد الإنتاج، وعملية التوزيع تهدف إلى قسمة عائد الإنتاج على عناصر الإنتاج التي شاركت فيه وهي وفقاً للاقتصاديين المحدثين: العمل، والأرض، ورأس المال، والتكنولوجيا، والتنظيم؛ ليحصل كل عنصر من عناصر الإنتاج على نصيبه من عائد النشاط الاقتصادي الإنتاجي.
وهنا أود التذكير بأن مفهوم النشاط الاقتصادي وعناصره، والهدف المتمثل في إشباع حاجات البشر الدنيوية والحصول على الخدمات، تتشابه إلى حد كبير في جميع المذاهب والأنظمة الاقتصادية؛ ولكن النشاط الاقتصادي الإسلامي يتمايز عن غيره من الأنشطة الاقتصادية؛ من حيث الغاية النهائية والوسيلة المتبعة في القيام بعناصر النشاط الاقتصادي، وهذا هو محور مقالات عناصر النشاط الاقتصادي.

توزيع عائد الإنتاج في الاقتصاد التقليدي

يهتم التوزيع في الاقتصاد التقليدي بتحديد الثمن المقابل لخدمات عناصر الإنتاج التي تسهم في العمليات الإنتاجية المختلفة، ووسيلته إلى ذلك تفاعل قوى العرض والطلب لتلك العناصر لتحديد سعر التوازن لها.
- ويحصل العمل ( الجهد البشري العقلي والعضلي ) المبذول في العملية الإنتاجية على عائده المتمثل في أجور العمال.
- وتحصل الأرض ويقصد بها جميع الثروات ( الموارد الطبيعية ) التي خلقها الله للبشر على سطح الأرض؛ سواء أكانت يابسة أم مائية وما فوقهما وما تحتهما على عائدها نظير المشاركة في العملية الإنتاجية في صورة إيجار يعرف بالريع.
- ويحصل رأس المال على معدل فائدة مضمون كعائد له على مشاركتة في العملية الإنتاجية.
- وتحصل التكنولوجيا على عائد متمثل في أجرة أو ثمن مقابل الخدمة المقدمة للعملية الإنتاجية.
- وفي النهاية يحصل التنظيم على ربح نظير مشاركته في العملية الإنتاجية، والربح هو الفائض (المتبقي ) بعد توزيع عائد العملية الإنتاجية على الأربعة عناصر التعاقدية السابقة.

التوزيع العادل للثروة والدخل هدف الاقتصاد الإسلامي

من الطبيعي أن يكون التوزيع العادل للثروة والدخل من أولويات الاقتصاد الإسلامي، ومن المبادئ التي يتمايز بها عن غيره من الأنظمة الاقتصادية، وذلك لأن الاقتصاد الإسلامي يستمد فلسفته ومبادئه وأدواته التطبيقية من مبادئ الإسلام ذاته؛ الذي يأمر بالعدل لما له من أهمية كبيرة في إقامة المجتمعات قال تعالى: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ " النحل 90، ويحذر من عدم العدل مع الناس بسبب بغضهم أو إساءتهم، بل يأمر في خطاب عام جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلا على سبيل العدل والإنصاف، وترك الميل والظلم والاعتساف قال تعالى: " وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى " المائدة 8.
لذا نجد عدالة التوزيع للثروة والدخل في الاقتصاد الإسلامى تتم على ثلاث مراحل:
1- مرحلة توزيع الثروة: وهي تتم قبل العملية الإنتاجية، وتهدف إلى تحقيق العدالة في توزيع الموارد الطبيعية ( عنصر الأرض )، وذلك من خلال تنظيم التملك الأولي للثروات والموارد الطبيعية التي خلقها الله للبشر دون دخل للإنسان في وجودها؛ وتنظيم التملك يحدد بالتبعية قاعدة توزيع الثروة، ومن بعدها توزيع الدخل على عناصر الإنتاج المشاركة فيه.
ولأن الاقتصاد الإسلامي ينفرد بنظرة اقتصادية عقـائديـة للملكية؛ إذ المالك الحقيقي لكل شئ هو الله عز وجل، قال تعالى: " لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ " المائدة 120؛ فإن الملكية في الاقتصاد الإسلامي لا تثبت إلا بإباحة الشارع لها، وتقريره لأسبابها، وهي ملكية انتفاع وليست ملكية رقبة، وهي ناشئة عن استخلاف الله للإنسان في الأرض، قال تعالى: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً " البقرة 30؛ وهذه الملكية مكفولة ومصونة طالما ينتفع الأفراد بالشئ المملوك وفقاً لمراد وتوجيهات المالك الحقيقي.
2- مرحلة توزيع الدخل: وتتم أثناء العملية الإنتاجية، وفيها يتم توزيع عائد الإنتاج كدخول لعناصر الإنتاج التي شاركت فيه، ويكون توزيع الدخل على ( عنصر العمل ) بناء على الجهد الذهني والعضلي الذي يبذله الإنسان، أو بناء على ملكيته لأحد عناصر الثروة.
وإن كان الاقتصاد الإسلامي يعترف بقوى السوق ( العرض والطلب ) ويستخدمها في تحديد العائد على ملكية أحد عناصر الإنتاج، إلا أنه لا يعتبر توازن قوى السوق هي الوسيلة المناسبة لتحديد أجر الجهد البشري المبذول في العملية الإنتاجية، لأن التوازن لا يعني العدل بالضرورة.
لذا فإن من أهم ما جاء به الإسلام في المجال الاقتصادي تحقيق " الكفاية " للإنسان بصفته إنسان، وليس بصفته ترس في آلة أو عنصر من عناصر الإنتاج تتحدد قيمته بعدد من ساعات العمل؛ فهو إنسان خلقه الله سبحانه وتعالى بيديه، ونفخ فيه من روحه، وميزه بالعقل والقدرة على الاختيار بين الخير والشر، وكرمه على جميع مخلوقاته، وأسجد له ملائكته، قال تعالى: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً " الإسراء 70.
والكفاية في الإسلام ليست مجرد كلام نظري، ولكنها حقيقة لها أسس واقعية واضحة في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة.
ففي القرآن الكريم: يحدد الخالق سبحانه وتعالى كفاية آدم عليه السلام في الجنة في قولة تعالى: " إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى " طه 118، 119. ففي الجنة توفر للإنسان كفايته من الأكل والشرب والملبس والمسكن.
وفي السنة النبوية: أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من أَصبح منكم آمنا في سربِه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت لَه الدنيا " رواه البخاري. وهذا الحديث يضيف لمقومات الحياة الأساسية الأمن والعلاج كمتطلبات تتعلق بالحياة على الأرض. ولم يتوقف الأمر عند توفير الأمن والعلاج فحسب، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من ولي لنا عملا فلم يكن له زوجة فليتزوج أو خادما فليتخذ خادما أو مسكنا فليتخذ مسكنا أو دابة فليتخذ دابة فمن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال أو سارق " رواه أحمد. وهذا الحديث يكشف عن نظرة الإسلام تجاه توفير الكفاية للعاملين في أجهزة الدولة، ويقرر الحدود الأساسية التي تكفل لكل إنسان حياة كريمة مقوماتها مسكن وزوجة ووسيلة انتقال وخادم.
فحد الكفاية في الاقتصاد الإسلامي هو ذلك الحد الذي يكفي معيشة الفرد ومن يعول من الحاجات الأساسية والحاجية والتحسينية، التي اعتاد أفراد المجتمع على الاحتياج إليها دون إسراف أو تقتير، مع مراعاة الظروف التي يعيشها المجتمع على المستوى العام سعةً وضيقاً، يقول الماوردي في الأحكام السلطانية: " تقدير العطاء مرتبط بالكفاية ".
3- مرحلة إعادة توزيع الثروة والدخل: وفيها يتم إعادة توزيع الثروة والدخل معاً وفقاً لمعايير أخرى غير المعايير الوظيفية لعناصر الإنتاج، والتي تعتمد على العمل في توزيع الدخل، وعلى الملكية في توزيع الثروة، وهذه المعايير الأخرى لها أبعاد إنسانية واجتماعية لتحقق بجانب العدل الرحمة والإحسان، وتحفظ توازن واستقرار المجتمع.
إن النظم الاقتصادية الوضعية التي لا تسمح باستحقاق الثرورة أو الدخل المتولد من النشاط الاقتصادي إلا لعناصر الإنتاج التي شاركت فيه، لإيمانها بأن قوى السوق هي المعيار الوحيد للتوزيع بين الفئات المختلفة، كان من ثمرتها تقسيم المجتمع إلى طبقات، ولا شئ أسوأ من تقسيم المجتمع إلى طبقة محدودة جداً من الأغنياء تتركز في إيديها الأموال ( الثروة والدخل )، وطبقه كبيرة من الفقراء، فتتسلط هذه الطبقة المحدودة وتتحكم في مصير الكثرة، وتسخرهم لخدمتها بغير حق، ويوجه أصحاب الأموال الاقتصاد كله وفقاً لمصالحهم ورغباتهم، وهو ما يُأجج مشاعر الكراهية والبغضاء في نفوس الطبقات الفقيرة على الأغنياء، ويتولد عن ذلك عنصرية وصراع طبقي يحدثان الشرور والآثام في المجتمع.
وقد تجاوز النظام الاقتصادي الإسلامي ذلك بأن جعل أساس التوزيع " الحاجة " في المقام الأول، ثم يأتي بعد ذلك العمل والملكية والمخاطرة في المقام الثاني، بحيث يضمن الإسلام " حد الكفاية " لكل فرد من أفراد المجتمع، وذلك كحق يكفله له المجتمع أو الدولة كإنسان خلقه الله وكرمه بغض النظر عن جنسيته أو ديانته لقوله تعالى : " وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا " الإسراء 26.
ولحرص النظام الاقتصاد الإسلامي على تحقيق العدالة في توزيع الثروات والدخول بين الأفراد بما يحفظ التوازن والاستقرار الاقتصادي في المجتمع، فقد اتخذ من قوله تعالى: " كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ " الحشر 7؛ قاعدة اقتصادية تمثل جانباً كبيراً من أسس النظرية الاقتصادية الإسلامية، فالملكية الفردية معترف بها ولكنها محددة بهذه القاعدة؛ وكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم ممنوعاً من التداول بين الفقراء هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية؛ كما يخالف هدفاً من أهداف النظام الاجتماعي الإسلامي، لذلك حرم الإسلام الربا وحظر الاحتكار، وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء.
هذا ولم يكتفي الشارع الحكيم بوضع القاعدة، وإنما عمل على ضمان تحقيقها في الواقع، بتحديد وسائل تطبيقية تعمل بصورة تلقائية ومستمرة على إعادة توزيع الثروات والدخول بين الأفراد بما لا يسمح بوجود احتكار للثروة، وإن وجد لا تبقي عليه، ومن أهم هذه الوسائل:
• الزكاة: الزكاة عبادة من أجلِّ العبادات فهي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي أيضاً أداة مهمة من أدوات إعادة توزيع الدخل وبعض الثروة لصالح الطبقات الفقيرة في المجتمع وفقاً لمعيار " الحاجة "، وهي تتميز بالتكرار كلما حال الحول، وأوعيتها تتميز بالتنوع مما يجعلها تغطي كافة عناصر الثروة والدخل فنجدها تشمل النقدين الذهب والفضة وما في حكمهما من أثمان ونقود سائلة، وعروض التجارة، والزروع والثمار، والثروة الحيوانية، والركاز كالمعادن والكنوز والبترول وكل ما يستخرج من باطن الأرض، والثروة البحرية كاللؤلؤ والمرجان، وكل ما يجد في كل عصر مما يعتبر ثروة ودخل.
ومعدلات الزكاة مختلفة فتفرض بـ 2,5%، 5%، 10%، 20%، والاختلاف في معدلاتها يرجع إلي مراعاة تكاليف الإنتاج والجهد البشري المبذول في الحصول على الثروة أو الدخل.
ورغم انخفاض نسبة الزكاة إلا أنها تعرض الثروات المكتنزة التي لا تساهم في الإنتاج للتآكل على مر السنين، مما يدفع أصحاب هذه الثروات إلى إخراجها من دائرة الاكتناز، والدفع بها في مجال الاستثمار الذي ينعش الاقتصاد ويقضي على البطالة، ويولد دخول للفقراء القادرين على العمل. أما الفقراء الذين لا يقدرون على العمل لظروف خارجة عن إرادتهم فإن التوزيع المباشر للزكاة المأخوذة من الأغنياء على الفقراء في المجتمع؛ يوفر حد الكفاية للفقراء ولمن يعولون، وهو ما يقضي على احتكار الثروة، ويسمح لجميع أفراد المجتمع بتداولها.
• الإرث: وسيلة حكيمة وعادلة من الخالق سبحانه وتعالى لإعادة توزيع مجموع الثروات والدخول المتراكمة خلال حياة كل إنسان بمجرد وفاته؛ وفقاً لمعيار صلة الرحم، ودرجة القرابة، والحاجة؛ تحقيقاً لاستمرار تداول الثروات على مدى الأجيال.
والإرث في النظام الإسلامي أقدر على تحقيق هدف إعادة التوزيع منه في الأنظمة الأخرى وذلك لاتساع قاعدة المستفيدين، قال تعالى: " لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا" النساء 7، 8. كما أن الشارع الحكيم قرر قواعد تحد من قدرة المُوَرث على التصرف في تركته أثناء حياته، قال رسول صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " أخرجه الترمذي؛ وإن كان هناك وصية لغير الوارث فيجب ألا تزيد عن ثلث التركة، لحديث عامر بن سعد عن أبيه قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت فقلت: يا رسول الله بلغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي " قال: لا " قال: قلت أفأتصدق بشطره " قال: لا الثلث والثلث كثير " صحيح مسلم.
بجانب هذه الوسائل الإلزامية الآمرة يوجد وسائل إلزامية ناهية عن الأعمال التي تعيق تدفق وتداول الأموال بين أفراد المجتمع، وتضر بعدالة توزيع الثروة والدخل منها:
• تحريم الربا: الربا من الأمور التي شدد القرآن على تحريمها، قال تعالى: " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا " البقرة 275، وقال تعالى: " يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ " البقرة 276؛ والمحق يعني إبادة وذهاب الشئ كله حتى لا يرى منه أثر، فالربا كارثة اقتصادية تمزق المجتمع نفسياً ومالياً ولا تترك لأفراده إلا الحسرة والندامة.
والربا هو الكبيرة الوحيدة التي استحق فاعلها الحرب من الله ورسوله، قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ " البقرة 278، 279.
يأتي التحريم المشدد للربا واستتباعه بعقوبة لا قِبَل لأحد بها؛ لمنع الاعتماد على توليد المال للمال، دون أي إضافة حقيقية إلى النشاط الاقتصادي الزراعي أو الصناعي أو التجاري أو غيرها مما يحتاج إلى العمل، فتحدث البطالة وتزداد الفوارق بين طبقات المجتمع، ويتحول مجرى الثروة إلى جهة واحدة هي جهة الأغنياء، وهو ما يرفضه النظام الاقتصادي الإسلامي.
• تحريم الاكتناز: الكنز في الأصل هو المال المدفون تحت الأرض من الذهب والفضة، قال تعالى: " وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ " التوبة 34، وفي التفسير أيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه، وإن كان على ظهر الأرض غير مدفون. أما الاكتناز بالمعنى الاقتصادي فيقصد به تخلف أحد عناصر الموارد عن المساهمة في الاقتصاد وبقاؤه في صورة عاطلة، مما يؤدي إلى حدوث اختناقات في حركة تداول الثروة يترتب عليها توقف أو تباطؤ النشاط الاقتصادي.
هذا ولم يقتصر النظام الاقتصاد الإسلامي في إعادة توزيع الثروة والدخل بين أفراد المجتمع على الوسائل الإلزامية الآمرة والناهية، وإنما رغب الأغنياء في وسائل تطوعية تحقق نفس الهدف وثوابها عند الله عظيم، وتشمل هذه الوسائل الصدقات، والنذور، والوقف.

توزيع عائد الإنتاج في الاقتصاد الإسلامي

هدف العدالة في توزيع الثروة والدخل في النظرية الاقتصادية الإسلامية كان له كبير الأثر في تمايز قواعد توزيع عائد الإنتاج على عناصر الإنتاج ( التوزيع الوظيفي ) في الاقتصاد الإسلامي عنها في الاقتصاد التقليدي.
1- العمل: في النظام الاقتصادي الإسلامي للعمل عدة أوجه تعاقدية داخل النشاط الاقتصادي، ولكل وجه من هذه الأوجه التعاقدية نصيبه من عائد العملية الإنتاجية وفقاً للتفصيل التالي:
• العمل الأجير: يقابل هذا الوجه التعاقدي عنصر العمل في اقتصاد السوق، ولكن في الاقتصاد الإسلامي يجب أن تكون بداية الأجر مساوية لأجر الكفاية الذي يكفي معيشة الفرد ومن يعول من الحاجات الأساسية والحاجية والتحسينية، ثم يرتفع الأجر ليحقق عدالة تنَاسُب الأجر مع الجهد المبذول في النشاط الإنتاجي قال تعالى: " وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ " الأعراف 85.
وعقد الإجارة في الاقتصاد الإسلامي بمقوماته الشرعية من التراضي المعبر عنه بالإيجاب والقبول، والشروط الواجب توافرها في طرفي التعاقد ( العامل وصاحب العمل )، وتحديد كمية العمل، ومعلومية الأجر، يؤدي هذا الغرض على الوجه المطلوب.
• العمل المضارب: ويكون من خلال عقد المضاربة، وهو أحد العقود الشرعية التي يختص بها النظام الاقتصاد الإسلامي دون سواه؛ وفيها يقدم العامل ( رب العمل ) مجهوده مقابل الحصول على حصة شائعة من الربح متفق عليها مع ( رب المال )، وإن حدث خسارة فيتحملها رب المال وحده؛ ويخسر العامل مجهوده.
• العمل المخاطر: وهو يقابل عنصر التنظيم في اقتصاد السوق؛ وفيه يخاطر العامل بماله ومجهوده في النشاط الاقتصادي، ويستأثر بالربح ( الغنم ) ويتحمل الخسارة ( الغرم ).
2- الأرض: تحصل الأرض في النظام الاقتصادي الإسلامي على عائد نظير مشاركتها في الإنتاج في صورة جزء من الناتج كما في حالة المزارعة، ومعناها في فقة السنة: إعطاء الأرض لمن يزرعها على أن يكون له نصيب مما يخرج منها كالنصف أو الثلث أو الأكثر من ذلك أو الأدنى حسب ما يتفقان عليه. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر.
ويجب العلم أن المزارعة تفسد إذا كان النصيب المتفق عليه معيناً؛ بأن يحدد مقداراً معيناً مما تخرج الأرض. أو يحدد مقداراً معيناً من مساحة الأرض تكون غلتها لصاحب الأرض، والباقي يكون للعامل أو يشتركا فيه. وسبب فساد المزارعة في هذه الحال أنه ربما يصاب النصيب المعين وتسلم الأرض، وربما تفسد الأرض ويسلم النصيب المعين، وهذا نوع من الغرر الذي قد يفضي إلى النزاع؛ كما يجوز أن تكون المزارعة بالنقد وبالطعام وبغيرهما مما يعد مالاً؛ بمعنى أن تحصل الأرض على أجرة محددة بالنقد في حالة دفعها للغير ليستغلها.
3- رأس المال: رأس المال في النظام الاقتصادي الإسلامي ليس له إلا أن يشارك في النشاط الاقتصادي، ومن ثم يشترك في نتيجتة النهائية من ربح أو خسارة، وذلك هو الطريق الشرعي الوحيد لنماء المال وزيادته، أما أن يحصل رأس المال على معدل فائدة ثابت ومضمون مقابل الوقت؛ بصرف النظر عن نتيجة النشاط الذي استخدم فيه، فهذا مرفوض لأنه الربا المحرم.

إشادة الغربيين بأدوات التوزيع في الاقتصاد الإسلامي

الدور الفعال للزكاة والوقف كأداتين من أدوات النظام الاقتصادي الإسلامي لإعادة توزيع الدخل والثروة لصالح الطبقات الفقيرة في المجتمع وفقاً لمعيار " الحاجة "؛ جعل عدد غير قليل من الاقتصاديين والكتاب والمؤرخين الغربيين المنصفين ينوه به، ويثني عليه، ويشيد بفضل الإسلام؛ ويثبت له السبق على النظم العالمية الحديثة في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه العالم.
المستشرق ليون روش مؤلف كتاب اثنتان وثلاثون سنة في رحاب الإسلام يقول: " لقد وجدت في الإسلام حل للمشكلتين الاجتماعيتين اللتين تشغلان العالم ( يقصد بذلك العنصرية والصراع الطبقي ).
الأول: في قول القرآن: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ " الحجرات 10.
الثاني: فرض الزكاة على كل ذي مال، وتخويل الفقراء حق أخذها غصباً، إن امتنع الأغنياء عن دفعها طوعاً، وهذا دواء الفوضوية ".
المؤرخ أرنولد توينبي حول نفس المعنى يقول: " أن الإسلام قد قضى على النزعة العنصرية والصراع الطبقي بتقرير مبدأ الإخاء الإسلامي والمساواة المطلقة بين المسلمين، وعلى الغرب أن يأخذ بهذا المبدأ الإسلامي لتنجو المدنية الحالية مما يدب فيها اليوم من عناصر العداء ".
المستشرق ماسينيون يقول: إن لدى الإسلام من الكفاية ما يجعله يتشدد في تحقيق فكرة المساواة؛ وذلك بفرض الزكاة التي يدفعها كل فرد لبيت المال، وهو يناهض الديون البابوية، والضرائب غير المباشرة التي تفرض على الحاجات الأولية الضرورية.
كارل ماركس الذي يعد أحد أعظم الاقتصاديين في التاريخ يقول عن نظام الزكاة: وكانت هذه الضريبة فرضاً دينياً يتحتم على الجميع أداؤه، وفضلاً عن هذه الصفة الدينية فالزكاة نظام اجتماعي عام، ومصدر تدخر به الدولة المحمدية ما تمد به الفقراء وتعينهم، وذلك على طريقة نظامية قويمة لا استبدادية تحكمية ولا عرضية طارئة، وهذا النظام البديع كان الإسلام أول من وضع أساسه في تاريخ البشرية عامة.
البروفيسور اليهودي إسحاق رايتر ألف كتاباً عن نظام الوقف الإسلامي يقول فيه: " إنه نظام مهم جداً ولا يوجد مثله في العالم، فهو يسمح بتداول الثروة، هذه المعضلة التي استعصت على كل النظريات والفلسفات والثورات ".
وأخيراً الباحث مسيو لوبله في كتاب حضارة العرب يقول: " صان المسلمون أنفسهم حتى الآن من مثل خطايا الغرب الهائلة فيما يمس رفاهية طبقة العمال، وتراهم يحافظون بإخلاص على النظم الباهرة ( يقصد الزكاة والإرث والوقف ) التي يساوي بها الإسلام بين الغني والفقير، والسيد والأجير على العموم، وليس من المبالغة أن يقال: إن الشعب الذي يزعم الأوربيون أنهم يرغبون في إصلاحه هو خير مثال في ذلك الأثر الجوهري ".
بعد هذه الإشادات من اقتصاديين وباحثين غير مسلمين؛ ألا يدفعنا هذا إلى رد الاعتبار لأدوات النظام الاقتصادي الإسلامي الإلزامية والتطوعية؟! فنطبق فريضة الزكاة، ونلغي القوانين الجائرة التي دمرت مؤسسات الوقف ليعود الوقف إلى سابق عهده الزاهر، وبذلك تتكامل الأدوات الإلزامية والتطوعية فيما بينها في تناغم، لتقوم بدورها في حل جميع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه دولنا الإسلامية، ونقدم للعالم أجمع نموذج تطبيقي يحتزى به في تحقيق العدالة الاقتصادية، والرحمة الاجتماعية.

عناصر النشاط الاقتصادي في الاقتصاد الإسلامي ( 1 ) الإنتاج

في أربع مقالات سابقة معنونة بـ " مدخل لدراسة الاقتصاد الإسلامي " بينَا خطأ مقولة أن المذهب الاقتصادي الإسلامي يعتمد في فلسفته ومبادئه وأدواته التطبيقية على المذهب الاقتصادي الفردي أو الجماعي أو المختلط بينهما؛ كما بينَا خطأ مقولة أن النظام الاقتصادي الإسلامي مزاج مركب يجمع بين الرأسمالية والاشتراكية يأخذ من كل منهما جانباً، أو أنه نظام مختلط يجمع بين آليات اقتصاد السوق كما في النظام الرأسمالي، وآليات تدخل الدولة في الأسواق كما في النظام الشيوعي.
وأوضحنا أن الاستخلاف هو أصل المذهب الاقتصادي الإسلامي الذي ينفرد بنظرة اقتصادية عقـائديـة تنبني على كون الإنسان مستخلف من الله في الأرض كما جاء في قوله تعالى: " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً " البقرة 30؛ والخلافة في الأرض تكون لعمارتها واستثمار خيراتها التي سخرها الله له لقوله تعالى: " وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا " هود 61.
وأن الإنسان وهو يمارس دوره في عمارة الأرض عليه أن يأتمر بأوامر الله وينتهي عن نواهيه لقوله تعالى: " أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ " الأعراف 54، وبذلك يتم الجمع بين الروح والمادة في الاقتصاد، فتنشأ خاصية الإحساس بالله تعالى ومراقبته في كل نشاط اقتصادي، وذلك بهدف إقامة مجتمع المتقين لتحقيق الغاية الأسمى وهي العبودية لله لقوله تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ " الذاريات 56.
وأوضحنا أن المذهب الاقتصادي الاستخلافي له مجموعة من الأسس التي تعبر عن فلسفته وتمثل الإطار الحاكم للنظام الاقتصادي الإسلامي التطبيقي المنبثق عنه، وهي تختلف تماماً عن فلسفات الأنظمة الاقتصادية الأخرى؛ وهذه الأسس هي: تكريم الإنسان، والمساواة بين الناس، والتسخير والتذليل، والتكليف بالعمل، والإحسان والرقابة الدائمة، والأفق الزمني للنتائج.
وينبع من هذه الأسس مجموعة من المبادئ التي تمثل أطر ومحددات يجب أن تعمل وسائل أو أدوات " آليات " النظام الاقتصادي الإسلامي التنفيذية على الالتزام بها دوماً عند التطبيق؛ وهذه المبادئ هي: حرية التملك، والحرية الاقتصادية، والوسطية، والعدالة، والتكامل والترابط.
يرافق هذه المبادئ ويغلفها مجموعة قيم أخلاقية تعتبر من أهم سمات النظام الاقتصادي الإسلامي التي ينفرد بها عن غيره من الأنظمة الأخرى، فحسن الخلق هو الوجه الحضاري للإسلام؛ وترسيخ الأخلاق في المجتمع هي رسالة الإسلام الأساسية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " رواه البخاري. ويؤكد ذلك أن الله سبحانه وتعالى أثنى على نبيه صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق في قوله تعالى: " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ " القلم 4. ومن هذه القيم الأخلاقية: الصدق، الأمانة، التلطف، الإيثار، التسامح، حسن الوفاء، الفضل والإحسان، كظم الغيظ والعفو، إمهال المعسر، التكافل.
وبينَا أنه لكي يحقق الاقتصاد الإسلامي النتائج المرجوة منه في واقع الحياة الاقتصادية فإنه يجب الالتزام عند التطبيق بأسس ومبادئ وأخلاقيات النظام الاقتصادي الإسلامي بصورة كاملة لقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً " البقرة 208.
واستكمالاً لما تم تقديمه في المقالات السابقة؛ وأظهر حقيقة وجود مذهب اقتصادي إسلامي متميز ومتفرد عن المذاهب الاقتصادية الأخرى، سأتناول في هذه المجموعة من المقالات عناصر النشاط الاقتصادي من: إنتاج، وتوزيع، واستهلاك، وادخار، واستثمار من وجهة نظر الاقتصاد الإسلامي.

مفهوم النشاط الاقتصادي

النشاط الاقتصادي عبارة عن مجموعة من الأفعال والمجهودات التي يبذلها كل فرد في المجتمع في شتى الوحدات الاقتصادية التي تتكون منها القطاعات الاقتصادية المختلفة: الزراعية، والصناعية، والتجارية، والتعدينية، والخدمية، ... وغيرها من القطاعات؛ وذلك فيما يخص: الإنتاج - التوزيع - الاستهلاك - الادخار - الاستثمار؛ وذلك بهدف إشباع حاجات الفرد ومن يعول أو الحصول على الأموال والخدمات.

أقسام الإنتاج

تنقسم الحرف الإنتاجية وفقاً لموسوعة الجغرافية المصغرة إلى ثلاث مجموعات هي:
1- حرف بدائية: ويقصد بها الحرف التي يمارسها الإنسان من أجل الحصول على حاجاته من الخامات الأولية من الطبيعة، وتشمل حرف الجمع، والرعي، والصيد، والزراعة، والتعدين.
2- حرف التصنيع: وتعني الحرف التحويلية التي تزيد من قيمة الخامات الأولية التي حصل عليها الإنسان من الطبيعة بتحويلها في المصانع من أشكالها الأولية إلى أشكال تتفق مع الاحتياجات المتعددة والمتطورة للإنسان كتحويل القمح إلى دقيق، وخامات الحديد إلى ألواح من الصلب، وخشب الأشجار إلى أثاث ... إلى غير ذلك من الصناعات التحويلية.
3- حرف الخدمات: ويقصد بها كافة الخدمات من مياه، وكهرباء، وصرف، وطرق، وتعليم، وصحة، وترفيه، ونقل، وصيانة ... وكلها خدمات تؤدي دوراً رئيسياً في العمليات الإنتاجية.

عناصر الإنتاج

الاقتصاديين التقليديين يرون أن عناصر الإنتاج هي: العمل ( المجهود البشري )، والأرض ( الموارد الطبيعية )، ورأس المال. والاقتصاديين المحدثين يرون أن عناصر الإنتاج هي: العمل، والأرض، ورأس المال، والتكنولوجيا، والتنظيم.
وفي تصوري أنه يوجد عنصرين أساسيين للإنتاج هما: الموارد الطبيعية التي خلقها الله للبشر دون دخل للإنسان في وجودها، وتتمثل في كل الثروات المخلوقة في صورتها البدائية؛ سواء أكانت يابسة أم مائية وما فوقهما وما تحتهما كالنبات والحيوان والبترول والمناجم ... إلى غير ذلك، والمجهود العقلي والبدني المبذول من الإنسان الذي خلقة الله وكلفه بالعمل للاستفادة من الموارد الطبيعية التي سخرها الله له ليقوم بواجب الاستخلاف من عمارة الأرض وتوحيد الله وعبادته، وما عداهما عناصرمصنوعة من اختلاط الجهد البشري بالموارد الطبيعية؛ فإذا كانت الموارد الطبيعية مسخرة ومذللة للإنسان بإرادة الله كما جاء في قوله تعالى: " اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ " إبراهيم 32- 34. وذلل الأنعام قال تعالى: " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ " يس 71- 73. يكون العمل ( المجهود البشري العقلي والعضلي )هو العنصر الوحيد الإيجابي والفاعل في العملية لإنتاجية.
ولا عجب في ذلك فإن من تكريم الله للإنسان تكليفه بالعمل قال تعالى: " وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ " التوبة 105؛ وليس أي عمل وإنما العمل الصالح ليقوم بواجب الاستخلاف في عمارة الأرض ليلبي حاجات نفسه ومن يعول، فيتحرر من سؤال الناس، ولا يكون لأحد سلطان عليه إلا الله، والقرآن الكريم يذخر بالآيات التي تقرن بين الإيمان والعمل الصالح، وفي ذلك دلالة واضحة على أن اﻻﺴﺘﺨﻼﻑ ﻭﺍﻟﺘﻤﻜﻴﻥ ﻓﻲ ﺍﻷﺭﺽ لا يتأتى إلا ﻟﻤﻥ ﺠﻤﻊ ﺒﻴﻥ ﺍﻹﻴﻤﺎﻥ ﻭﺍﻟﻌﻤل ﺍﻟﺼﺎﻟﺢ، قال تعالى: " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا " النور55.

الاقتصاد الإسلامي معني بالإنتاج القيمي لا العبثي

من المعلوم أن مفهوم النشاط الاقتصادي وعناصره، والقطاعات الاقتصادية، وأقسام الإنتاج، وعناصر الإنتاج، والهدف المتمثل في إشباع حاجات البشر الدنيوية، والحصول على الخدمات تتشابه إلى حد كبير في جميع المذاهب والأنظمة الاقتصادية؛ ولكن النشاط الاقتصادي الإسلامي يتمايز عن غيره من الأنشطة الاقتصادية من حيث الغاية النهائية والوسيلة المتبعة في القيام بعناصر النشاط الاقتصادي، وهذا هو محور مقالات عناصر النشاط الاقتصادي.
فحينما نقول أن الاقتصاد الإسلامي معني بالإنتاج القيمي لا العبثي؛ نقصد القيمي بمعنييه أي أن يكون للإنتاج قيمة مادية ونفعية لأفراد المجتمع، وفي ذات الوقت يراعي القيم الدينية والأخلاقية للمجتمع، وألا يكون بغرض التباهي والتفاخر والتعالي على الناس وظلمهم والبطش بهم. قال تعالى: " كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ " الشعراء 123- 135.
جاء في التفاسير أن هذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله هود عليه السلام، أنه دعا قومه عاداً، وكانوا قوماً يسكنون الأحقاف القريبة من حضر موت المتاخمة لليمن، وكان زمانهم بعد قوم نوح، قال تعالى: " وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " الأعراف 69. وكانت عاد قد بلغوا مبلغاً عظيماً من البأس وعظم السلطان والتغلب والبطش على البلاد؛ مما أثار قولهم الذي أثبته الله تعالى لهم في كتابه الكريم في قوله تعالى: " فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً " فصلت 15. فلما رأى هود من قومه انشغالهم بأمور دنياهم، وإعراضهم عن التفكر في الآخرة والعمل لها والنظر في العاقبة، وإشراكاً مع الله في إلهيته، وانصرافاً عن عبادة الله وحده الذي خلقهم وأعمرهم في الأرض وزادهم قوة على الأمم، فانصرفت هماتهم إلى التعاظم والتفاخر واللهو واللعب والبطش؛ قال لهم مستنكراً: " أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ". والريع هو المكان المرتفع والطريق بين الجبلين. والمعنى: أتبنون هناك حصون وقصور وبناءً محكماً باهراً هائلاً ليكون معلماً مشهوراً؛ وتفعلون ذلك عبثاً لا للاحتياج إليه؛ بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة؛ ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام ذلك؛ لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان وإهدار للموارد التي خلقها الله في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا الآخرة.
ثم قال لهم : " وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ "، والمصانع: هي القصور والبروج المشيدة، وقيل هي الجابية المحفورة في الأرض ويسمى صهريجاً يخزن بها ماء المطر. والمعنى: أنه استمر في إنكاره لأعمالهم التي كانت نافعة عندما أريد بها رضى الله تعالى بنفع عبيده؛ فلما أُهمل إرضاء الله تعالى بها، واتُخذت للرياء والغرور بالعظمة والإعراض عن التوحيد وعن عبادة الله انقلبت عظمة دنيوية محضة، لا ينظر فيها إلى جانب النفع، ولا تحث الناس على الاقتداء في تأسيس أمثالها، وقصاراها التمدح بما وجدوه منها فصار وجودها شبيهاً بالعبث؛ لأنها خلت عن روح المقاصد الحسنة فلا عبرة عند الله بها؛ لأن الله خلق هذا العالم ليكون مظهر عبادته وطاعته. وأصبح الإعراض عن الآخرة والاقتصار على التزود للحياة الدنيا بمنزلة من يحسبون أنفسهم خالدين في الدنيا، وليس ذلك بحاصل لأنه زائل عنهم كما زال عمن كان قبلهم.

إيضاح واجب

حتى لا يتطرق إلى نفس القارئ الكريم أن الأعمال التي قامت بها عاد من بناء أعلاماً ومنارات في طرق أسفارهم تدل على الطريق كيلا يضل السائرون في تلك الرمال المتنقلة التي لا تبقى فيها آثار السائرين، وكذلك حفر الصهاريج لتجمع ماء المطر في الشتاء ليشرب منها المسافرون وينتفع بها الحاضرون في زمن قلة الأمطار، وبناء الحصون والقصور على المرتفع من الأرض، وهي مما لا شك فيه من الأعمال النافعة في ذاتها؛ لأن فيها حفظ الناس من الهلاك في الفيافي بضلال الطرق، ومن الهلكة عطشاً إذا فقدوا الماء وقت الحاجة إليه أعمال مُنكرة، نبين أن المقصود هو إنكار الغاية والوسيلة من وراء تلك الأعمال وليس الأعمال ذاتها.
فقوم عاد حين طال عليهم الأمد، افتقدت أعمالهم النافعة مراعاة المقاصد التي ترضي الله تعالى، واختلفت مشارب عامليها طرائق قددا على اختلاف الهمم واجتلاب المصالح الخاصة؛ فتفننوا في إرضاء الهوى، وأقبلوا على الملذات، واشتد الغرور بأنفسهم، وظلموا وبطشوا، فأضاعوا الجانب الأهم للإنسان وهو جانب الدين وزكاء النفس، وأهملوا أن يقصدوا من أعمالهم المقاصد النافعة ونية إرضاء الله على أعمالهم لحب الرئاسة والسمعة، فعبدوا غير الله، واستخفوا بجانب الله تعالى، واستحمقوا الناصحين، وهذا هو ما أنكره عليهم رسولهم.
يؤكد هذا المعنى ما رُوي عن أبا الدرداء رضي الله عنه، أنه لما رأى ما أحدث المسلمون في غوطة دمشق من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم فنادى: يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا تستحيون! ألا تستحيون! تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتُأملُون ما لا تدركون، إنه كانت قبلكم قرون، يجمعون فيرعون، ويبنون فيوثقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غروراً، وأصبح جمعهم بوراً، وأصبحت مساكنهم قبوراً، ألا إن عاداً ملكت ما بين عدن وعمان خيلاً وركاباً، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟.

مواصفات العمل المنتج في الاقتصاد الإسلامي

المذهب الاقتصادي الإسلامي المبني على الاستخلاف وعمارة الأرض من غير إثم ولا عدوان، لا يرضى للمسلم أن يكون عاطلاً غير منتج، ولا أن يكون مهدراً للموارد بإنتاج ما لا فائدة منه أو ما يزيد عن الحاجة، أو إنتاج ما هو محرم أو ضار، أو أن تكون كثرة الإنتاج وتنوعه سبباً في الإعراض عن عبادة الله، أو في الظلم والبطش لعباد الله، وإنما يحض على العمل والإنتاج في مختلف أقسام الإنتاج لعمارة الأرض وعبادة الله، وقد خاطب الله رسله وأنبياءه بقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ " المؤمنون 51. ولأن أنبياء الله صلوات الله عليهم أجمعين وظيفتهم الأساسية دعوة الناس لعبادة الله وحده، وهم لا يتقاضون على ذلك أجراً من البشر، فشعار الأنبياء جميعاً جاء في قوله تعالى: " وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ " الشعراء 127. لذلك فإنهم جميعاً صلوات الله عليهم عملوا وكدوا وامتهنوا كافة الحرف البدائية والتصنيعية والخدمية ليتكسبوا، فآدم أبو البشر كان مزارعاً، وإدريس كان خياطاً، ونوح كان نجاراً يصنع المراكب، وكان خليل الله إبراهيم بناء وهو الذي بنى الكعبة، وإسماعيل كان يمتهن القنص ( الصيد )، وإلياس كان نساجاً، وداود كان حداداً يصنع الدروع، ويوسف كان اقتصادياً وخازناً للمالية، وكان إسحاق ويعقوب وشعيب وموسى رعاة للغنم، وعيسى ابن مريم كان يعمل بالطب، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان راعياً للغنم ثم تاجراً.
فالمطلوب في العمل المنتج في الاقتصاد الإسلامي أن يتفق مع التعاليم الإسلامية، ليتحول من مجرد عمل يتحصل منه العامل على أجر ثمن لمجهوده في العملية الإنتاجية؛ إلى عبادة تؤدى بنية صالحة بصرف النظر عن الأجر ومدى كفايته لتلبية حاجات العامل، يؤكد ذلك ما قاله كعب بن عجرة: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان " رواه الطبراني.
فالمنهج الاقتصادي الإسلامي يحرص على أن يكون جميع أفراد المجتمع منتجين، وإن لم يتحقق لهم نفع مادِي في حياتِهم، باعتبار أن هناك أفق زمني للنتائج، وأن الدنيا مهما طالت هي في النهاية مزرعة الآخرة، وإن ما عند الله خيرٌ وأبقى، يؤكد ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها " الأدب المفرد للبخاري. يقول د. القرضاوي: وقد يسأل سائل بقوله: ما الفائدة من غرس الفسيلة والساعة قائمة؟ ويعقب قائلاً: قد لا أجد أجمل مما أورده أحد العلماء المعاصرين للإجابة عن ذلك: بأنه تكريم للعمل الذي يتعبد به المسلم لربه، والعبادة ليس لها أجل تقف عنده؛ لقوله تعالى: " وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ " الحجر 99.
يقول د. قاسم الحموري: ولا ريب أن هذا بحد ذاته حافز قوي للإقبال على العمل والإنتاج، لا يدركه إلا ذوو البصائر، الأمر الذي يمكن معه القول بأن تلك الصفة التعبدية للنشاط الاقتصادي في الإسلام لها أثرها الإيجابي في زيادة عرض العمل في الاقتصاد الإسلامي، ومن ثم زيادة الإنتاج من السلع والخدمات، نتيجة تهافت أفراد المجتمع المسلم على العمل، دون التأثر بشكل كبير بتقلبات الأجور المالية، ما دام المسلم يعمل ابتغاء ثواب الدنيا ( العائد المادي )، وثواب الآخرة ( جنة عرضها السماوات والأرض )، وذلك مما يسهم في القضاء على البطالة الاختيارية، وفي كبح جماح التضخم الذي يسود الاقتصاديات المعاصرة.